فصل: (كِتَابُ الذَّبَائِحِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.(كِتَابُ الْمُسَاقَاةِ):

(قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمُسَاقَاةُ بِجُزْءٍ مِنْ الثَّمَرِ بَاطِلَةٌ، وَقَالَا: جَائِزَةٌ إذَا ذَكَرَ مُدَّةً مَعْلُومَةً وَسَمَّى جُزْءًا مِنْ الثَّمَرِ مُشَاعًا) وَالْمُسَاقَاةُ: هِيَ الْمُعَامَلَةُ وَالْكَلَامُ فِيهَا كَالْكَلَامِ فِي الْمُزَارَعَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُعَامَلَةُ جَائِزَةٌ، وَلَا تَجُوزُ الْمُزَارَعَةُ إلَّا تَبَعًا لِلْمُعَامَلَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذَا الْمُضَارَبَةُ، وَالْمُعَامَلَةُ أَشْبَهُ بِهَا لِأَنَّ فِيهِ شَرِكَةً فِي الزِّيَادَةِ دُونَ الْأَصْلِ.
وَفِي الْمُزَارَعَةِ لَوْ شَرَطَا الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ دُونَ الْبَذْرِ بِأَنْ شَرَطَا رَفْعَهُ مِنْ رَأْسِ الْخَارِجِ تَفْسُدُ، فَجَعَلْنَا الْمُعَامَلَةَ أَصْلًا، وَجَوَّزْنَا الْمُزَارَعَةَ تَبَعًا لَهَا كَالشُّرْبِ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ وَالْمَنْقُولِ فِي وَقْفِ الْعَقَارِ، وَشَرْطُ الْمُدَّةِ قِيَاسٌ فِيهَا لِأَنَّهَا إجَارَةٌ مَعْنًى كَمَا فِي الْمُزَارَعَةُ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: إذَا لَمْ يُبَيِّنْ الْمُدَّةَ يَجُوزُ وَيَقَعُ عَلَى أَوَّلِ ثَمَرٍ يَخْرُجُ، لِأَنَّ الثَّمَرَ لِإِدْرَاكِهَا وَقْتٌ مَعْلُومٌ وَقَلَّمَا يَتَفَاوَتُ وَيَدْخُلُ فِيمَا مَا هُوَ الْمُتَيَقَّنُ، وَإِدْرَاكُ الْبَذْرِ فِي أُصُولِ الرَّطْبَةِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ إدْرَاكِ الثِّمَارِ، لِأَنَّ لَهُ نِهَايَةً مَعْلُومَةً فَلَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ الْمُدَّةِ، بِخِلَافِ الزَّرْعِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَهُ يَخْتَلِفُ كَثِيرًا خَرِيفًا وَصَيْفًا وَرَبِيعًا، وَالِانْتِهَاءُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ فَتَدْخُلُهُ الْجَهَالَةُ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَ إلَيْهِ غَرْسًا قَدْ عُلِّقَ وَلَمْ يَبْلُغْ الثَّمَرُ مُعَامَلَةً حَيْثُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ بِقُوَّةِ الْأَرَاضِيِ وَضَعْفِهَا تَفَاوُتًا فَاحِشًا، وَبِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَ نَخِيلًا أَوْ أُصُولَ رُطَبَةٍ عَلَى أَنْ يَقُومَ عَلَيْهَا أَوْ أَطْلَقَ فِي الرُّطَبَةِ تَفْسُدُ الْمُعَامَلَةُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ، لِأَنَّهَا تَنْمُو مَا تُرِكَتْ فِي الْأَرْضِ فَجُهِلَتْ الْمُدَّةُ (وَيُشْتَرَطُ تَسْمِيَةُ الْجُزْءِ مُشَاعًا) لِمَا بَيَّنَّا فِي الْمُزَارَعَةِ إذْ شَرْطُ جُزْءٍ مُعَيَّنٍ يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ (فَإِنْ سَمَّيَا فِي الْمُعَامَلَةِ وَقْتًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ الثَّمَرُ فِيهَا فَسَدَتْ الْمُعَامَلَةُ) لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الشَّرِكَةُ فِي الْخَارِجِ (وَلَوْ سَمَّيَا مُدَّةً قَدْ يَبْلُغُ الثَّمَرُ فِيهَا وَقَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْهَا جَازَتْ) لِأَنَّا لَا نَتَيَقَّنُ بِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ، ثُمَّ لَوْ خَرَجَ فِي الْوَقْتِ الْمُسَمَّى فَهُوَ عَلَى الشَّرِكَةِ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ فَلِلْعَامِلِ أَجْرُ الْمِثْلِ لِفَسَادِ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ الْخَطَأَ فِي الْمُدَّةِ الْمُسَمَّاةِ فَصَارَ كَمَا إذَا عَلِمَ ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَخْرُجْ أَصْلًا لِأَنَّ الذَّهَابَ بِآفَةٍ فَلَا يَتَبَيَّنُ فَسَادَ الْمُدَّةِ فَيَبْقَى الْعَقْدُ صَحِيحًا، وَلَا شَيْءَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ.
قَالَ (وَتَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ فِي النَّخْلِ وَالشَّجَرِ وَالْكَرْمِ وَالرِّطَابِ وَأُصُولِ الْبَاذِنْجَانِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ: لَا تَجُوزُ إلَّا فِي الْكَرْمِ وَالنَّخْلِ، لِأَنَّ جَوَازَهَا بِالْأَثَرِ وَقَدْ خَصَّهُمَا وَهُوَ حَدِيثُ خَيْبَرَ.
وَلَنَا أَنَّ الْجَوَازَ لِلْحَاجَةِ وَقَدْ عَمَّتْ، وَأَثَرُ خَيْبَرَ لَا يَخُصُّهُمَا لِأَنَّ أَهْلَهَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فِي الْأَشْجَارِ وَالرِّطَابِ أَيْضًا، وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمَ فَالْأَصْلُ فِي النُّصُوصِ أَنْ تَكُونَ مَعْلُولَةً سِيَّمَا عَلَى أَصْلِهِ (وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْكَرْمِ أَنْ يُخْرِجَ الْعَامِلَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ) لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي الْوَفَاءِ بِالْعَقْدِ (وَكَذَا لَيْسَ لِلْعَامِلِ أَنْ يَتْرُكَ الْعَمَلَ بِغَيْرِ عُذْرٍ) بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ بِالْإِضَافَةِ إلَى صَاحِبِ الْبَذْرِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.
قَالَ (فَإِنْ دَفَعَ نَخْلًا فِيهِ تَمْرٌ مُسَاقَاةً وَالتَّمْرُ يَزِيدُ بِالْعَمَلِ جَازَ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ انْتَهَتْ لَمْ يَجُزْ) وَكَذَا عَلَى هَذَا إذَا دَفَعَ الزَّرْعَ وَهُوَ بَقْلٌ جَازَ، وَلَوْ اُسْتُحْصِدَ وَأُدْرِكَ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ الْعَامِلَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالْعَمَلِ، وَلَا أَثَرَ لِلْعَمَلِ بَعْدَ التَّنَاهِي وَالْإِدْرَاكِ، فَلَوْ جَوَّزْنَاهُ لَكَانَ اسْتِحْقَاقًا بِغَيْرِ عَمَلٍ وَلَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ ذَلِكَ لِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إلَى الْعَمَلِ.
قَالَ (وَإِذَا فَسَدَتْ الْمُسَاقَاةُ فَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ، وَصَارَ كَالْمُزَارَعَةِ إذَا فَسَدَتْ.
الشَّرْحُ:
كِتَابُ الْمُسَاقَاةِ: كَانَ مِنْ حَقِّ الْمُسَاقَاةِ التَّقْدِيمُ عَلَى الْمُزَارَعَةِ لِكَثْرَةِ مَنْ يَقُولُ بِجَوَازِهَا، وَلِوُرُودِ الْأَحَادِيثِ فِي مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلُ خَيْبَرَ، إلَّا أَنَّ اعْتِرَاضَ مُوجِبَيْنِ صَوَّبَ إيرَادَ الْمُزَارَعَةِ قَبْلَ الْمُسَاقَاةِ: أَحَدُهُمَا شِدَّةُ الِاحْتِيَاجِ إلَى مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْمُزَارَعَةِ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهَا، وَالثَّانِي كَثْرَةُ تَفْرِيعِ مَسَائِلِ الْمُزَارَعَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسَاقَاةِ (وَالْمُسَاقَاةُ هِيَ الْمُعَامَلَةُ) بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: وَمَفْهُومُهَا اللُّغَوِيُّ هُوَ مَفْهُومُهَا الشَّرْعِيُّ فَهِيَ مُعَاقَدَةُ دَفْعِ الْأَشْجَارِ وَالْكُرُومِ إلَى مَنْ يَقُومُ بِإِصْلَاحِهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُمْ سَهْمٌ مَعْلُومٌ مِنْ ثَمَرِهَا، وَالْكَلَامُ فِيهَا كَالْكَلَامِ فِي الْمُزَارَعَةِ: يَعْنِي شَرَائِطَهَا هِيَ الشَّرَائِطُ الَّتِي ذُكِرَتْ لِلْمُزَارَعَةِ، وَهِيَ غَيْرُ جَائِزَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَالْمُزَارَعَةِ وَبِهِ أَخَذَ زُفَرُ.
وَجَائِزَةٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُعَامَلَةُ جَائِزَةٌ وَالْمُزَارَعَةُ لَا تَجُوزُ إلَّا تَبَعًا لَهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ النَّخِيلُ وَالْكَرْمُ فِي أَرْضٍ بَيْضَاءَ تُسْقَى بِمَاءِ النَّخِيلِ فَيَأْمُرُ بِأَنْ يَزْرَعَ الْأَرْضَ أَيْضًا بِالنِّصْفِ، وَقَدْ ذُكِرَ دَلِيلُهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ مِسَاسَ الْحَاجَةِ إلَى تَجْوِيزِهَا وَالْعُرْفُ الظَّاهِرُ بَيْنَ النَّاسِ فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ أَلْحَقَاهَا بِالْمُضَارَبَةِ فَجَازَتْ مُنْفَكَّةً عَنْ الْمُعَامَلَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِدْرَاكُ الْبَذْرِ فِي أُصُولِ الرَّطْبَةِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ إدْرَاكِ الثَّمَنِ) مَعْنَاهُ: لَوْ دَفَعَ رَطْبَةً قَدْ انْتَهَى جُذَاذُهَا عَلَى أَنْ يَقُومَ عَلَيْهَا وَيَسْقِيَهَا حَتَّى يَخْرُجَ بَذْرُهَا عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَذْرٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ جَازَ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِمَّا يُرْغَبُ فِيهِ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي مَعْنَى الثَّمَرِ لِلشَّجَرِ، وَهَذَا لِأَنَّ إدْرَاكَ الْبَذْرِ لَهُ وَقْتٌ مَعْلُومٌ وَعِنْدَ الْمُزَارِعِينَ فَكَانَ ذِكْرُهُ بِمَنْزِلَةِ ذِكْرِ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَالْبَذْرُ يَحْصُلُ بِعَمَلِ الْعَامِلِ، فَاشْتِرَاطُ الْمُنَاصَفَةِ فِيهِ يَكُونُ صَحِيحًا وَالرَّطْبَةُ لِصَاحِبِهِ.
وَقَوْلُهُ (غَرْسًا قَدْ عَلَّقَ) أَيْ نَبَتَ وَلَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الْإِثْمَارِ ظَاهِرٌ، وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَ نَخِيلًا أَوْ أُصُولَ رَطْبَةٍ عَلَى أَنْ يَقُومَ عَلَيْهَا) مَعْنَاهُ: حَتَّى تَذْهَبَ أُصُولُهُمَا وَيَنْقَطِعُ نَبَاتُهَا، وَقَوْلُهُ (أَوْ أَطْلَقَ فِي الرَّطْبَةِ) يَعْنِي لَمْ يَقُلْ حَتَّى تَذْهَبَ أُصُولُهَا (فَسَدَتْ الْمُعَامَلَةُ) مَعْنَاهُ: إذَا لَمْ يَكُنْ لِلرَّطْبَةِ جَذَّةٌ مَعْلُومَةٌ، فَإِنْ كَانَ فَهِيَ جَائِزَةٌ كَمَا لَوْ أَطْلَقَ فِي النَّخِيلِ فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى الثَّمَرَةِ الْأُولَى، وَقَدْ تَرَكَ الْمُصَنِّفُ فِي كَلَامِهِ قَيْدَيْنِ لَا غِنًى عَنْهُمَا فَكَانَ إيجَازًا مُخِلًّا.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهَا تَنْمُو مَا تُرِكَتْ فِي الْأَرْضِ) دَلِيلُ الرَّطْبَةِ وَلَمْ يُذْكَرْ دَلِيلُ النَّخِيلِ وَالرَّطْبَةِ إذَا شَرَطَ الْقِيَامَ عَلَيْهِمَا حَتَّى تَذْهَبَ أُصُولُهَا لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِذَلِكَ فَكَانَ غَيْرَ مَعْلُومٍ وَقَوْلُهُ (لَا يَخْرُجُ الثَّمَرُ فِيهَا) أَيْ فِي الْوَقْتِ أَنَّثَهُ بِتَأْوِيلِ الْمُدَّةِ.
قَالَ (وَتَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ فِي النَّخِيلِ وَالشَّجَرِ) هَذَا بَيَانُ مَا تَجْرِي فِيهِ الْمُسَاقَاةُ وَمَا لَا تَجْرِي فِيهِ، وَخَصَّصَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ جَوَازَهَا بِمَا وَرَدَ فِيهِ الْأَثَرُ مِنْ حَدِيثِ خَيْبَرَ وَكَانَ فِي النَّخْلِ وَالْكَرْمِ (وَلَنَا أَنَّ الْجَوَازَ لِلْحَاجَةِ وَقَدْ عَمَّتْ) وَعُمُومُ الْعِلَّةِ يَقْتَضِي عُمُومَ الْحُكْمِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَثَرَ خَيْبَرَ خَصَّهُمَا لِأَنَّ أَهْلَهَا يَعْمَلُونَ فِي الْأَشْجَارِ وَالرِّطَابِ أَيْضًا، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنَّ الْأَصْلَ فِي النُّصُوصِ التَّعْلِيلُ لاسيما عَلَى أَصْلِهِ، فَإِنَّ بَابَهُ عِنْدَهُ أَوْسَعُ لِأَنَّهُ يَرَى التَّعْلِيلَ بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ وَبِكُلِّ وَصْفٍ قَامَ دَلِيلُ التَّمْيِيزِ عَلَى كَوْنِهِ جَامِعًا بَيْنَ الْأَوْصَافِ، وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّا لَا نُجَوِّزُهُ بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ، وَيُشْتَرَطُ قِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ هَذَا النَّصَّ بِعَيْنِهِ مَعْلُولٌ وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْكَرْمِ) وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا قَدَّمْنَاهُ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْمُزَارَعَةِ بِقَوْلِهِ: (وَإِذَا عُقِدَتْ الْمُزَارَعَةُ فَامْتَنَعَ صَاحِبُ الْبَذْرِ مِنْ الْعَمَلِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ إلَخْ) وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ لَمْ تَشْتَمِلْ عَلَى ضَرَرٍ فَكَانَتْ لَازِمَةً مِنْ الْجَانِبَيْنِ، بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ فَإِنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ فِي الْحَالِ بِإِلْقَاءِ بَذْرِهِ فِي الْأَرْضِ فَلَمْ تَكُنْ لَازِمَةً مِنْ جِهَتِهِ، ثُمَّ عُذْرُ صَاحِبِ الْكَرْمِ لُحُوقُ دَيْنٍ فَادِحٍ لَا يُمْكِنْهُ الْإِيفَاءُ إلَّا بِبَيْعِ الْكَرْمِ، وَعُذْرُ الْعَامِلِ الْمَرَضُ، وَقَوْلُهُ (وَلَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ) لِأَنَّهَا جُوِّزَتْ بِالْأَثَرِ فِيمَا يَكُونُ أَجْرُ الْعَامِلِ بَعْضَ الْخَارِجِ.
قَوْلُهُ (وَإِذَا فَسَدَتْ الْمُسَاقَاةُ) وَاضِحٌ. قَالَ (وَتَبْطُلُ الْمُسَاقَاةُ بِالْمَوْتِ) لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْإِجَارَةِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيهَا، فَإِنْ مَاتَ رَبُّ الْأَرْضِ وَالْخَارِجُ بُسْرٌ فَلِلْعَامِلِ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ يَقُومُ قَبْلَ ذَلِكَ إلَى أَنْ يُدْرِكَ الثَّمَرَ، وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ وَرَثَةُ رَبِّ الْأَرْضُ اسْتِحْسَانًا فَيَبْقَى الْعَقْدُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ، وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْآخَرِ (وَلَوْ الْتَزَمَ الْعَامِلُ الضَّرَرَ يُتَخَيَّرُ وَرَثَةُ الْآخَرِ بَيْنَ أَنْ يَقْسِمُوا الْبُسْرَ عَلَى الشَّرْطِ وَبَيْنَ أَنْ يُعْطُوهُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مِنْ الْبُسْرِ وَبَيْنَ أَنْ يُنْفِقُوا عَلَى الْبُسْرِ حَتَّى يَبْلُغَ فَيَرْجِعُوا بِذَلِكَ فِي حِصَّةِ الْعَامِلِ مِنْ الثَّمَرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهِمْ)، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الْمُزَارَعَةِ (وَلَوْ مَاتَ الْعَامِلُ فَلِوَرَثَتِهِ أَنْ يَقُومُوا عَلَيْهِ وَإِنْ كَرِهَ رَبُّ الْأَرْضِ) لِأَنَّ فِيهِ النَّظَرَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ (فَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَصْرِمُوهُ بُسْرًا كَانَ صَاحِبُ الْأَرْضِ بَيْنَ الْخِيَارَاتِ الثَّلَاثَةِ) الَّتِي بَيَّنَّاهَا.
(وَإِنْ مَاتَا جَمِيعًا فَالْخِيَارُ لِوَرَثَةِ الْعَامِلِ) لِقِيَامِهِمْ مَقَامَهُ، وَهَذَا خِلَافَةٌ فِي حَقٍّ مَالِيٍّ وَهُوَ تَرْكُ الثِّمَارِ عَلَى الْأَشْجَارِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ لَا أَنْ يَكُونَ وَارِثُهُ فِي الْخِيَارِ (فَإِنْ أَبَى وَرَثَةُ الْعَامِلِ أَنْ يَقُومُوا عَلَيْهِ كَانَ الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ لِوَرَثَةِ رَبِّ الْأَرْضُ) عَلَى مَا وَصْفنَا.
قَالَ (وَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْمُعَامَلَةِ وَالْخَارِجُ بُسْرٌ أَخْضَرُ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ، وَلِلْعَامِلِ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهَا إلَى أَنْ يُدْرِكَ لَكِنْ بِغَيْرِ أَجْرٍ) لِأَنَّ الشَّجَرَ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُ، بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ فِي هَذَا لِأَنَّ الْأَرْضَ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهَا، وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ كُلُّهُ عَلَى الْعَامِلِ هَاهُنَا وَفِي الْمُزَارَعَةِ فِي هَذَا عَلَيْهِمَا، لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ أَجْرُ مِثْلِ الْأَرْضِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ عَلَى الْعَامِلِ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْعَمَلَ وَهَاهُنَا لَا أَجْرَ فَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْعَمَلَ كَمَا يَسْتَحِقُّ قَبْلَ انْتِهَائِهَا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَالْخَارِجُ بُسْرٌ فَلِلْعَامِلِ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ) جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ إبْقَاءً لِلْعَقْدِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ.
وَأَمَّا فِي الْقِيَاسِ فَقَدْ انْتَقَضَتْ الْمُسَاقَاةُ بَيْنَهُمَا وَكَانَ الْبُسْرُ بَيْنَ وَرَثَةِ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَبَيْنَ الْعَامِلِ نِصْفَيْنِ إنْ شَرَطَا أَنْصَافًا، لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ اسْتَأْجَرَ الْعَامِلَ بِبَعْضِ الْخَارِجِ وَالْإِجَارَةُ تُنْتَقَضُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَالْبَاقِي وَاضِحٌ عُلِمَ مِمَّا ذُكِرَ نَظِيرُهُ فِي الْمُزَارَعَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا خِلَافَةٌ فِي حَقٍّ مَالِيٍّ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: كَانَ لِلْمُوَرِّثِ الْخِيَارُ وَقَدْ مَاتَ وَالْخِيَارُ لَا يُوَرَّثُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي شَرْطِ الْخِيَارِ وَهُوَ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَالْخَارِجُ بُسْرٌ أَخْضَرُ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ) يَعْنِي صُورَةَ الْمَوْتِ (سَوَاءٌ وَالْعَامِلُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ عَمِلَ كَمَا كَانَ يَعْمَلُ لَكِنْ بِغَيْرِ أَجْرٍ لِأَنَّ الشَّجَرَ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُ) وَإِنْ أَبَى خُيِّرَ الْآخَرُ بَيْنَ الْخِيَارَاتِ الثَّلَاثِ، بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ فِي هَذَا: أَيْ فِيمَا إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْمُزَارَعَةِ لِأَنَّ الْأَرْضَ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهَا، وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ كُلُّهُ عَلَى الْعَامِلِ هَاهُنَا لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ قَالَ (وَتُفْسَخُ بِالْأَعْذَارِ) لِمَا بَيَّنَّا فِي الْإِجَارَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوهَ الْعُذْرِ فِيهَا.
وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ سَارِقًا يَخَافُ عَلَيْهِ سَرِقَةَ السَّعَفِ وَالثَّمَرِ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ لِأَنَّهُ يُلْزِمُ صَاحِبَ الْأَرْضِ ضَرَرًا لَمْ يَلْتَزِمْهُ فَتُفْسَخُ بِهِ.
وَمِنْهَا مَرَضُ الْعَامِلِ إذَا كَانَ يُضْعِفُهُ عَنْ الْعَمَلِ، لِأَنَّ فِي إلْزَامِهِ اسْتِئْجَارَ الْأُجَرَاءِ زِيَادَةَ ضَرَرٍ عَلَيْهِ وَلَمْ يَلْتَزِمْهُ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ عُذْرًا، وَلَوْ أَرَادَ الْعَامِلُ تَرْكَ ذَلِكَ الْعَمَلِ هَلْ يَكُونُ عُذْرًا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ.
وَتَأْوِيلُ إحْدَاهُمَا أَنْ يَشْتَرِطَ الْعَمَلَ بِيَدِهِ فَيَكُونَ عُذْرًا مِنْ جِهَتِهِ (وَمَنْ دَفَعَ أَرْضًا بَيْضَاءَ إلَى رَجُلٍ سِنِينَ مَعْلُومَةً يَغْرِسُ فِيهَا شَجَرًا عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ وَالشَّجَرُ بَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْغَارِسِ نِصْفَيْنِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ) لِاشْتِرَاطِ الشَّرِكَةِ فِيمَا كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ الشَّرِكَةِ لَا بِعَمَلِهِ (وَجَمِيعُ الثَّمَرِ وَالْغَرْسِ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَلِلْغَارِسِ قِيمَةُ غَرْسِهِ وَأَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ: إذْ هُوَ اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْ عَمَلِهِ وَهُوَ نِصْفُ الْبُسْتَانُ فَيَفْسُدُ وَتَعَذَّرَ رَدُّ الْغِرَاسِ لِاتِّصَالِهَا بِالْأَرْضِ فَيَجِبُ قِيمَتُهَا وَأَجْرُ مِثْلِهِ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي قِيمَةِ الْغِرَاسِ لِتَقَوُّمِهَا بِنَفْسِهَا وَفِي تَخْرِيجِهَا طَرِيقٌ آخَرُ بَيَّنَّاهُ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى، وَهَذَا أَصَحُّهُمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَتُفْسَخُ بِالْأَعْذَارِ لِمَا بَيَّنَّا فِي الْإِجَارَاتِ) يُرَدُّ بِهِ قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ مَقْبُوضَةٍ وَهِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا، فَصَارَ الْعُذْرُ فِي الْإِجَارَةِ كَالْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ إلَى آخِرِهِ (وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوهَ الْعُذْرِ فِيهَا) أَيْ فِي الْإِجَارَةِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (فِيهِ رِوَايَتَانِ) يَعْنِي فِي كَوْنِ تَرْكِ الْعَمَلِ عُذْرًا رِوَايَتَانِ: فِي إحْدَاهُمَا لَا يَكُونُ عُذْرًا، وَيُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَازِمٌ لَا يُفْسَخُ إلَّا مِنْ عُذْرٍ وَهُوَ مَا يَلْحَقُهُ بِهِ ضَرَرٌ وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَفِي الْأُخْرَى عُذْرٌ، وَتَأْوِيلُهُ أَنْ يُشْتَرَطَ الْعَمَلُ بِيَدِهِ، فَإِذَا تُرِكَ ذَلِكَ الْعَمَلُ كَانَ عُذْرًا، أَمَّا إذَا رُفِعَ إلَيْهِ النَّخِيلُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا بِنَفْسِهِ وَبِأُجَرَائِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ غَيْرَهُ فَلَا يَكُونُ تَرْكُ الْعَمَلِ عُذْرًا فِي فَسْخِ الْمُعَامَلَةِ.
(وَمَنْ دَفَعَ أَرْضًا بَيْضَاءَ لَيْسَ فِيهَا شَجَرٌ إلَى رَجُلٍ سِنِينَ مَعْلُومَةً يَغْرِسُ فِيهَا شَجَرًا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْأَرْضُ وَالشَّجَرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لِاشْتِرَاطِهِ الشَّرِكَةَ فِيمَا كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ الشَّرِكَةِ) وَهُوَ الْأَرْضُ (وَكَانَ جَمِيعُ الثَّمَرِ وَالْغَرْسِ لِرَبِّ الْأَرْضِ، وَلِلْغَارِسِ قِيمَةُ غَرْسِهِ وَأَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ إذَا هُوَ اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْ عَمَلِهِ وَهُوَ نِصْفُ الْبُسْتَانِ فَكَانَ فَاسِدًا وَتَعَذَّرَ رَدُّ الْغِرَاسِ لِاتِّصَالِهَا بِالْأَرْضِ) فَإِنَّهُ لَوْ قَلَعَ الْغِرَاسَ وَسَلَّمَهَا لَمْ يَكُنْ تَسْلِيمًا لِلشَّجَرِ بَلْ يَكُونُ تَسْلِيمًا لِقِطْعَةِ خَشَبَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا بَلْ الْمَشْرُوطُ تَسْلِيمُ الشَّجَرِ بِقَوْلِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْأَرْضُ وَالشَّجَرُ بَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْغَارِسِ نِصْفَيْنِ، فَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْ تَسْلِيمُهَا شَجَرًا وَجَبَ قِيمَتُهَا وَأَجْرُ مِثْلِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي قِيمَةِ الْغِرَاسِ لِأَنَّهَا أَعْيَانٌ مُتَقَوِّمَةٌ بِنَفْسِهَا لَا مُجَانَسَةَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ عَمَلِ الْعَامِلِ لِأَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ بِالْعَقْدِ لَا قِيمَةَ لَهُ فِي نَفْسِهِ (وَفِي تَخْرِيجِهَا طَرِيقٌ آخَرُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى) وَهُوَ شِرَاءُ رَبِّ الْأَرْضِ نِصْفَ الْغِرَاسِ مِنْ الْعَامِلِ بِنِصْفِ أَرْضِهِ، أَوْ شِرَاؤُهُ جَمِيعَ الْغِرَاسِ بِنِصْفِ أَرْضِهِ وَنِصْفِ الْخَارِجِ، فَكَانَ عَدَمُ جَوَازِ هَذَا الْعَقْدِ لِجَهَالَةِ الْغِرَاسِ نِصْفِهَا أَوْ جَمِيعِهَا لِكَوْنِهَا مَعْدُومَةً عِنْدَ الْعَقْدِ لَا لِكَوْنِهِ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ (وَهَذَا) يَعْنِي الْمَذْكُورَ فِي الْهِدَايَةِ (أَصَحُّهُمَا) لِأَنَّهُ نَظِيرُ مَنْ اسْتَأْجَرَ صَبَّاغًا لِيَصْبُغَ ثَوْبَهُ وَبِصَبْغِ نَفْسِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ نِصْفُ الْمَصْبُوغِ لِلصَّبَّاغِ فِي أَنَّ الْغِرَاسَ آلَةٌ يَجْعَلُ الْأَرْضَ بِهَا بُسْتَانًا كَالصَّبْغِ لِلثَّوْبِ، فَإِذَا فَسَدَتْ الْإِجَارَةُ بَقِيَتْ الْآلَةُ مُتَّصِلَةً بِمِلْكِ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَهِيَ مُتَقَوِّمَةٌ فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا كَمَا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ قِيمَةُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِي ثَوْبِهِ وَأَجْرُ عَمَلِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.(كِتَابُ الذَّبَائِحِ):

قَالَ (الذَّكَاةُ شَرْطُ حِلِّ الذَّبِيحَةِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} وَلِأَنَّ بِهَا يَتَمَيَّزُ الدَّمُ النَّجِسُ مِنْ اللَّحْمُ الطَّاهِرُ.
وَكَمَا يَثْبُتُ بِهِ الْحِلُّ يَثْبُتُ بِهِ الطَّهَارَةُ فِي الْمَأْكُولِ وَغَيْرُهُ، فَإِنَّهَا تُنْبِئُ عَنْهَا.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «ذَكَاةُ الْأَرْضِ يُبْسُهَا» وَهِيَ اخْتِيَارِيَّةٌ كَالْجُرْحِ فِيمَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ، وَاضْطِرَارِيَّةٌ وَهِيَ الْجُرْحُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ الْبَدَنُ.
وَالثَّانِي كَالْبَدَلِ عَنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْأَوَّلِ.
وَهَذَا آيَةُ الْبَدَلِيَّةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَعْمَلُ فِي إخْرَاجِ الدَّمِ وَالثَّانِيَ أَقْصَرُ فِيهِ، فَاكْتَفَى بِهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْأَوَّلِ، إذْ التَّكْلِيفُ بِحَسْبِ الْوُسْعِ.
وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ الذَّابِحُ صَاحِبَ مِلَّةِ التَّوْحِيدِ إمَّا اعْتِقَادًا كَالْمُسْلِمِ أَوْ دَعْوَى كَالْكِتَابِيِّ، وَأَنْ يَكُونَ حَلَالًا خَارِجَ الْحَرَمِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْحُ:
كِتَابُ الذَّبَائِحِ: الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْمُزَارَعَةِ وَالذَّبَائِحِ كَوْنُهُمَا إتْلَافًا فِي الْحَالِ لِلِانْتِفَاعِ فِي الْمَآلِ، فَإِنَّ الزِّرَاعَةَ إنَّمَا تَكُونُ بِإِتْلَافِ الْحَبِّ فِي الْأَرْضِ لِلِانْتِفَاعِ بِمَا يَنْبُتُ مِنْهَا، وَالذَّبْحُ إتْلَافُ الْحَيَوَانِ بِإِزْهَاقِ رُوحِهِ فِي الْحَالِ لِلِانْتِفَاعِ بِلَحْمِهِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِرَاقِيِّينَ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الذَّبْحَ مَحْظُورًا عَقْلًا، وَلَكِنَّ الشَّرْعَ أَحَلَّهُ لِأَنَّ فِيهِ إضْرَارًا بِالْحَيَوَانِ.
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: هَذَا عِنْدِي بَاطِلٌ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَنَاوَلُ اللَّحْمَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، وَلَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ ذَبَائِحَ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَذْبَحُونَ بِأَسْمَاءِ الْأَصْنَامِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ يَذْبَحُ وَيَصْطَادُ بِنَفْسِهِ، وَمَا كَانَ بِفِعْلِ مَا كَانَ مَحْظُورًا عَقْلًا كَالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ وَالسَّفَهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا كَانَ يَأْكُلُ ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَيْسَ الذَّبْحُ كَالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ، لِأَنَّ الْمَحْظُورَ الْعَقْلِيَّ ضَرْبَانِ: مَا يُقْطَعُ بِتَحْرِيمِهِ فَلَا يَرِدُ الشَّرْعُ بِإِبَاحَتِهِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَمَا فِيهِ نَوْعُ تَجْوِيزٍ مِنْ حَيْثُ تَصَوُّرِ مَنْفَعَةٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِإِبَاحَتِهِ وَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ قَبْلَهُ نَظَرًا إلَى نَفْعِهِ كَالْحِجَامَةِ لِلْأَطْفَالِ وَتَدَاوِيهِمْ بِمَا فِيهِ أَلَمٌ لَهُمْ، وَالذَّكَاةُ الذَّبْحُ، وَأَصْلُ تَرْكِيبِ التَّذْكِيَةِ يَدُلُّ عَلَى التَّمَامِ وَمِنْهُ ذَكَاءُ السِّنِّ بِالْمَدِّ لِنِهَايَةِ الشَّبَابِ، وَذَكَا النَّارَ بِالْقَصْرِ لِتَمَامِ اشْتِعَالِهَا، وَمَعْنَى قَوْلِهِ (الذَّكَاةُ شَرْطُ حِلِّ الذَّبِيحَةِ) الذَّبْحُ شَرْطُ حِلِّ أَكْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الْحَيَوَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} بَعْدَ قَوْلِهِ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} إلَخْ.
اسْتَثْنَى مِنْ الْحُرْمَةِ الْمُذَكَّى فَيَكُونُ حَلَالًا، وَالْمُتَرَتِّبُ عَلَى الْمُشْتَقِّ مَعْلُومٌ لِلصِّفَةِ الْمُشْتَقِّ مِنْهَا، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْحِلُّ ثَابِتًا بِالشَّرْعِ جُعِلَتْ شَرْطًا، وَلِأَنَّ غَيْرَ الْمُذَكَّى مَيْتَةٌ وَهِيَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا بِالْحُرْمَةِ، وَلِأَنَّ الدَّمَ حَرَامٌ لِنَجَاسَتِهِ لِمَا تَلَوْنَا، وَهُوَ غَيْرُ مُتَمَيِّزٍ مِنْ اللَّحْمِ، وَإِنَّمَا يَتَمَيَّزُ بِالذَّكَاةِ فَلَا بُدَّ مِنْهَا لِيَتَمَيَّزَ النَّجِسُ مِنْ الطَّاهِرِ، وَلَا يَلْزَمُ الْجَرَادُ وَالسَّمَكُ لِأَنَّ حِلَّهُمَا بِلَا ذَبْحٍ ثَبَتَ بِالنَّصِّ.
وَكَمَا يَثْبُتُ بِالذَّبْحِ الْحِلُّ فِي الْمَأْكُولِ يَثْبُتُ بِهِ الطَّهَارَةُ فِي غَيْرِهِ، لِأَنَّ الذَّكَاةَ تُنْبِئُ عَنْ الطَّهَارَةِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ذَكَاةُ الْأَرْضِ يُبْسُهَا» يَعْنِي أَنَّهَا إذَا يَبِسَتْ مِنْ رُطُوبَةِ النَّجَاسَةِ طَهُرَتْ وَطَابَتْ كَمَا أَنَّ الذَّبِيحَةَ بِالذَّكَاةِ تَطْهُرُ وَتَطِيبُ (وَهِيَ) يَعْنِي الذَّكَاةَ (اخْتِيَارِيَّةٌ كَالْجُرْحِ فِيمَا بَيْنَ اللَّبَّةِ) وَهِيَ الصَّدْرُ وَاللَّحْيَانِ، وَاضْطِرَارِيَّةٌ وَهُوَ الْجُرْحُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ الْبَدَنِ.
قَوْلُهُ (وَالثَّانِي كَالْبَدَلِ عَنْ الْأَوَّلِ) وَاضِحٌ، وَإِنَّمَا قَالَ كَالْبَدَلِ لِأَنَّ الْأَبْدَالَ تُعْرَفُ بِالنَّصِّ وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ، وَقَدْ وُجِدَتْ أَمَارَةُ الْبَدَلِيَّةِ فَقَالَ كَالْبَدَلِ (وَمِنْ شَرْطِهِ) أَيْ وَمِنْ شَرْطِ الذَّبْحِ أَنْ يَكُونَ الذَّابِحُ صَاحِبَ مِلَّةِ التَّوْحِيدِ، إمَّا اعْتِقَادًا كَالْمُسْلِمِ، أَوْ دَعْوَى كَالْكِتَابِيِّ فَإِنَّهُ يَدَّعِي مِلَّةَ التَّوْحِيدِ، وَإِنَّمَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ إذَا لَمْ يَذْكُرْ وَقْتَ الذَّبْحِ اسْمَ عُزَيْرٍ وَالْمَسِيحِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا خَارِجَ الْحَرَمِ كَمَا سَيَجِيءُ. قَالَ (وَذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ وَالْكِتَابِيِّ حَلَالٌ) لِمَا تَلَوْنَا.
وَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} وَيَحِلُّ إذَا كَانَ يَعْقِلُ التَّسْمِيَةَ وَالذَّبِيحَةَ وَيَضْبِطُ وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ امْرَأَةً، أَمَّا إذَا كَانَ لَا يَضْبِطُ وَلَا يَعْقِلُ التَّسْمِيَةَ وَالذَّبِيحَةَ لَا تَحِلُّ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ شَرْطٌ بِالنَّصِّ وَذَلِكَ بِالْقَصْدِ.
وَصِحَّةُ الْقَصْدِ بِمَا ذَكَرْنَا.
وَالْأَقْلَفُ وَالْمَخْتُونُ سَوَاءٌ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِطْلَاقُ الْكِتَابِيِّ يَنْتَظِمُ الْكِتَابِيَّ وَالذِّمِّيَّ وَالْحَرْبِيَّ وَالْعَرَبِيَّ وَالتَّغْلِبِيَّ، لِأَنَّ الشَّرْطَ قِيَامُ الْمِلَّةِ عَلَى مَا مَرَّ.
قَالَ (وَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ» وَلِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي التَّوْحِيدَ فَانْعَدَمَتْ الْمِلَّةُ اعْتِقَادًا وَدَعْوَى.
قَالَ (وَالْمُرْتَدِّ) لِأَنَّهُ لَا مِلَّةَ لَهُ.
فَإِنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى مَا انْتَقَلَ إلَيْهِ، بِخِلَافِ الْكِتَابِيِّ إذَا تَحَوَّلَ إلَى غَيْرِ دِينِهِ لِأَنَّهُ يُقِرُّ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فَيُعْتَبَرُ مَا هُوَ عَلَيْهِ عِنْدَ الذَّبْحِ لَا مَا قَبْلَهُ.
قَالَ (وَالْوَثَنِيِّ) لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ الْمِلَّةَ.
قَالَ (وَالْمُحَرَّمُ) يَعْنِي مِنْ الصَّيْدِ (وَكَذَا لَا يُؤْكَلُ مَا ذُبِحَ فِي الْحَرَمِ مِنْ الصَّيْدِ) وَالْإِطْلَاقُ فِي الْمُحَرَّمِ يَنْتَظِمُ الْحِلَّ وَالْحَرَمَ، وَالذَّبْحُ فِي الْحَرَمِ يَسْتَوِي فِيهِ الْحَلَالُ وَالْمُحْرِمُ، وَهَذَا لِأَنَّ الذَّكَاةَ فِعْلٌ مَشْرُوعٌ وَهَذَا الصَّنِيعُ مُحَرَّمٌ فَلَمْ تَكُنْ ذَكَاةً، بِخِلَافِ مَا إذَا ذَبَحَ الْمُحْرِمُ غَيْرَ الصَّيْدِ أَوْ ذَبَحَ فِي الْحَرَمِ غَيْرَ الصَّيْدِ صَحَّ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مَشْرُوعٌ، إذْ الْحَرَمُ لَا يُؤَمِّنُ الشَّاةَ، وَكَذَا لَا يَحْرُمُ ذَبْحُهُ عَلَى الْمُحْرِمُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ وَالْكِتَابِيِّ حَلَالٌ إلَخْ) ذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ وَالْكِتَابِيِّ ذِمِّيًّا كَانَ أَوْ حَرْبِيًّا حَلَالٌ إذَا أَتَى بِهِ مَذْبُوحًا، وَأَمَّا إذَا ذَبَحَ بِالْحُضُورِ فَلَا بُدَّ مِنْ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ أَنْ لَا يَذْكُرَ غَيْرَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلُهُ (لِمَا تَلَوْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْله تَعَالَى {إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} وَلَمَّا اسْتَشْعَرَ أَنْ يُقَالَ {إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} عَامٌّ مَخْصُوصٌ لِخُرُوجِ الْوَثَنِيِّ وَالْمُرْتَدِّ وَالْمَجُوسِيِّ فَلَا يَكُونُ قَاطِعًا فِي الْإِفَادَةِ ضَمَّ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: طَعَامُهُمْ ذَبَائِحُهُمْ.
وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ، فَإِنَّ الْمَجُوسِيَّ إذَا اصْطَادَ سَمَكَةً حَلَّ أَكْلُهَا: وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ التَّخْصِيصَ بِاسْمِ الْعَلَمِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ (وَيَحِلُّ إذَا كَانَ الذَّابِحُ يَعْقِلُ التَّسْمِيَةَ) قِيلَ يَعْنِي يَعْقِلُ لَفْظَ التَّسْمِيَةِ، وَقِيلَ يَعْقِلُ أَنَّ حِلَّ الذَّبِيحَةِ بِالتَّسْمِيَةِ (وَالذَّبِيحَةُ) يَعْنِي يَقْدِرُ عَلَى الذَّبْحِ وَيَضْبِطُهُ: أَيْ يَعْلَمُ شَرَائِطَ الذَّبْحِ مِنْ فَرْيِ الْأَوْدَاجِ وَالْحُلْقُومِ (وَإِنْ كَانَ) أَيْ الذَّابِحُ (صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا) قَالَ فِي النِّهَايَةِ أَيْ مَعْتُوهًا، لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَا قَصْدَ لَهُ وَلَا بُدَّ مِنْهُ، لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ شَرْطٌ بِالنَّصِّ وَهِيَ بِالْقَصْدِ، وَصِحَّةُ الْقَصْدِ بِمَا ذَكَرْنَا: يَعْنِي قَوْلَهُ إذَا كَانَ يَعْقِلُ التَّسْمِيَةَ وَالذَّبِيحَةَ وَيَضْبِطُهُ، وَالْأَقْلَفُ وَالْمَخْتُونُ سَوَاءٌ لِمَا ذَكَرْنَا.
قِيلَ أَرَادَ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ عَادَتَهُ فِي مِثْلِهِ لِمَا تَلَوْنَا.
وَقِيلَ أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ لِأَنَّ حِلَّ الذَّبِيحَةِ يَعْتَمِدُ الْمِلَّةَ وَهَذَا لَيْسَ بِمَذْكُورٍ فِي الْكِتَابِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ إشَارَةً إلَى الْآيَةِ وَإِلَى قَوْلِهِ وَلِأَنَّ بِهِ يَتَمَيَّزُ الدَّمُ النَّجِسُ مِنْ اللَّحْمِ الطَّاهِرِ وَعَادَتُهُ فِي مِثْلِهِ ذَلِكَ.
قِيلَ إنَّمَا ذَكَرَ الْأَقْلَفَ احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَإِنَّهُ يَقُولُ: شَهَادَةُ الْأَقْلَفِ وَذَبِيحَتُهُ لَا تَجُوزُ.
وَقَوْلُهُ (وَإِطْلَاقُ الْكِتَابِ) يَنْتَظِمُ كَذَا ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الشَّرْطَ قِيَامُ الْمِلَّةِ) فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ وُجُودَ الشَّرْطِ لَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمَشْرُوطِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ، وَقَوْلُهُ (وَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ) وَاضِحٌ.
قَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْكِتَابِيِّ إذَا تَحَوَّلَ إلَى غَيْرِ دِينِهِ) يُرِيد بِهِ مِنْ أَدْيَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَمَّا إذَا تَمَجَّسَ فَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ. قَالَ (وَإِنْ تَرَكَ الذَّابِحُ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا فَالذَّبِيحَةُ مَيْتَةٌ لَا تُؤْكَلُ وَإِنْ تَرَكَهَا نَاسِيًا أُكِلَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أُكِلَ فِي الْوَجْهَيْنِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُؤْكَلُ فِي الْوَجْهَيْنِ وَالْمُسْلِمُ وَالْكِتَابِيُّ فِي تَرْكُ التَّسْمِيَةُ سَوَاءٌ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ إرْسَالِ الْبَازِي وَالْكَلْبِ، وَعِنْدَ الرَّمْيِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ الشَّافِعِيِّ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَهُ فِي حُرْمَةِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ نَاسِيًا.
فَمِنْ مَذْهَبِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ يَحْرُمُ، وَمِنْ مَذْهَبِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ يَحِلُّ، بِخِلَافِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالْمَشَايِخُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: إنَّ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا لَا يَسَعُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِهِ لَا يَنْفُذُ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ، لَهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {الْمُسْلِمُ يَذْبَحُ عَلَى اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى سَمَّى أَوْ لَمْ يُسَمِّ} وَلِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لَوْ كَانَتْ شَرْطًا لِلْحِلِّ لَمَا سَقَطَتْ بِعُذْرِ النِّسْيَانِ كَالطَّاهِرَةِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ، وَلَوْ كَانَتْ شَرْطًا فَالْمِلَّةُ أُقِيمَتْ مَقَامَهَا كَمَا فِي النَّاسِي، وَلَنَا الْكِتَابُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} الْآيَةَ، نَهْيٌ وَهُوَ لِلتَّحْرِيمِ.
وَالْإِجْمَاعُ وَهُوَ مَا بَيَّنَّا.
وَالسُّنَّةُ وَهُوَ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ فِي آخِرِهِ {فَإِنَّك إنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كَلْبِك وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْبِ غَيْرِك} عَلَّلَ الْحُرْمَةَ بِتَرْكِ التَّسْمِيَةِ.
وَمَالِكٌ يَحْتَجُّ بِظَاهِرِ مَا ذَكَرْنَا، إذْ لَا فَصْلَ فِيهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: فِي اعْتِبَارِ ذَلِكَ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كَثِيرُ النِّسْيَانِ وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ وَالسَّمْعُ غَيْرُ مُجْرًى عَلَى ظَاهِرِهِ، إذْ لَوْ أُرِيدَ بِهِ لَجَرَتْ الْمُحَاجَّةُ وَظَهَرَ الِانْقِيَادُ وَارْتَفَعَ الْخِلَافُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلُ.
وَالْإِقَامَةُ فِي حَقِّ النَّاسِي وَهُوَ مَعْذُورٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا فِي حَقِّ الْعَامِدِ وَلَا عُذْرَ، وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ النِّسْيَانِ ثُمَّ التَّسْمِيَةُ فِي ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ تُشْتَرَطُ عِنْدَ الذَّبْحِ وَهِيَ عَلَى الْمَذْبُوحِ.
وَفِي الصَّيْدِ تُشْتَرَطُ عِنْدَ الْإِرْسَالِ وَالرَّمْيِ وَهِيَ عَلَى الْآلَةِ، لِأَنَّ الْمَقْدُورَ لَهُ فِي الْأَوَّلِ الذَّبْحُ وَفِي الثَّانِي الرَّمْيُ وَالْإِرْسَالُ دُونَ الْإِصَابَةِ فَتُشْتَرَطُ عِنْدَ فِعْلٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، حَتَّى إذَا أَضْجَعَ شَاةً وَسَمَّى فَذَبَحَ غَيْرَهَا بِتِلْكَ التَّسْمِيَةِ لَا يَجُوزُ.
وَلَوْ رَمَى إلَى صَيْدٍ وَسَمَّى وَأَصَابَ غَيْرَهُ حَلَّ، وَكَذَا فِي الْإِرْسَالِ، وَلَوْ أَضْجَعَ شَاةً وَسَمَّى ثُمَّ رَمَى بِالشَّفْرَةِ وَذَبَحَ بِالْأُخْرَى أُكِلَ، وَلَوْ سَمَّى عَلَى سَهْمٍ ثُمَّ رَمَى بِغَيْرِهِ صَيْدًا لَا يُؤْكَلُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِنْ تَرَكَ الذَّابِحُ التَّسْمِيَةَ إلَخْ) إنْ تَرَكَ الذَّابِحُ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الذَّبْحِ اخْتِيَارِيًّا كَانَ أَوْ اضْطِرَارِيًّا عَامِدًا كَانَ أَوْ نَاسِيًا: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِشُمُولِ الْجَوَازِ وَمَالِكٍ بِشُمُولِ الْعَدَمِ.
وَعُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فَصَّلُوا، إنْ تَرَكَهَا عَامِدًا فَالذَّبِيحَةُ مَيْتَةٌ لَا تُؤْكَلُ، وَإِنْ تَرَكَهَا نَاسِيًا أُكِلَ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْمُسْلِمُ يَذْبَحُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى سَمَّى أَوْ لَمْ يُسَمِّ» سَوَّى بَيْنَ التَّسْمِيَةِ وَعَدَمِهَا وَالشَّرْطُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَبِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لَوْ كَانَتْ شَرْطًا لِلْحِلِّ لَمَا سَقَطَتْ بِعُذْرِ النِّسْيَانِ، كَالطَّهَارَةِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ شَرْطًا لَمْ تَجُزْ صَلَاةُ مَنْ نَسِيَ الطَّهَارَةَ لَكِنَّهَا سَقَطَتْ بِعُذْرِ النِّسْيَانِ سَلَّمْنَا أَنَّهَا شَرْطٌ لَكِنَّ الْمِلَّةَ أُقِيمَتْ مَقَامَهَا كَمَا فِي النَّاسِي.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْحَدِيثِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ النِّسْيَانِ دَفْعًا لِلتَّعَارُضِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ وَعَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ الْمُلَازَمَةَ فَإِنَّهَا تُفْضِي إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ مَعْهُودَةٌ فِيمَا إذَا كَانَ عَلَى النَّاسِي هَيْئَةٌ مَذْكُورَةٌ كَالْأَكْلِ فِي الصَّلَاةِ وَالْجِمَاعِ فِي الْإِحْرَامِ، وَهَاهُنَا إنْ لَمْ تَكُنْ هَيْئَةٌ تُوجِبُ النِّسْيَانَ وَهِيَ مَا يَحْصُلُ لِلذَّابِحِ عِنْدَ زَهُوقِ رُوحِ حَيَوَانٍ مِنْ تَغَيُّرِ الْحَالِ فَلَيْسَ هَيْئَةٌ مُذْكَرَةٌ بِمَوْجُودَةٍ، وَلِمَانِعِ أَنْ يَمْنَعَ بُطْلَانَ التَّالِي أَيْضًا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعَنْ التَّنَزُّلِ بِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ: يَعْنِي أَنَّ إقَامَةَ الْمِلَّةِ مَقَامَ التَّسْمِيَةِ فِي حَقِّ النَّاسِي وَهُوَ مَعْذُورٌ لَا يَدُلُّ فِي حَقِّ الْعَامِدِ وَلَا عُذْرَ لَهُ، وَأَمَّا مَا شَنَّعَ بِهِ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِكَوْنِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ فَوَاضِحٌ.
وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى «وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» فَإِنَّ فِيهِ النَّهْيَ بِأَبْلَغِ وَجْهٍ، وَهُوَ تَأْكِيدُهُ بِمِنْ الِاسْتِغْرَاقِيَّةِ عَنْ أَكْلِ مَتْرُوك التَّسْمِيَةِ، وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ يَقْتَضِي الْحُرْمَةَ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَهُوَ أَقْرَبُ لَا مَحَالَةَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ غَيْرُ مُجْرًى عَلَى ظَاهِرِهِ، إذْ لَوْ أُرِيدَ بِهِ لَجَرَتْ الْمُحَاجَّةُ وَظَهَرَ الِانْقِيَاد وَارْتَفَعَ الْخِلَاف فِي الصَّدْر الْأَوَّل، لِأَنَّ ظَاهِر مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ لَا يَخْفَى عَلَى أَهْلِ اللِّسَانِ، وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى، إذْ الْإِنْسَانُ كَثِيرُ النِّسْيَانِ، وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} فَيُحْمَلُ عَلَى حَالَةِ الْعَمْدِ دَفْعًا لِلتَّعَارُضِ.
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرُ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}.
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ السَّلَفَ أَجْمَعُوا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الذِّكْرُ حَالَ الذَّبْحِ لَا غَيْرُ، وَصِلَةُ عَلَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ يُقَالُ ذَكَرَ عَلَيْهِ إذَا ذَكَرَ بِاللِّسَانِ، وَذَكَرَهُ إذَا ذَكَرَ بِالْقَلْبِ.
وَقَوْلُهُ {وَلَا تَأْكُلُوا} عَامٌّ مُؤَكَّدٌ بِمِنْ الِاسْتِغْرَاقِيَّةِ الَّتِي تُفِيدُ التَّأْكِيدَ، وَتَأْكِيدُ الْعَامِّ يَنْفِي احْتِمَالَ الْخُصُوصِ فَهُوَ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِلتَّخْصِيصِ فَيَعُمُّ كُلَّ مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ حَالَ الذَّبْحِ عَامِدًا كَانَ أَوْ نَاسِيًا، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ النَّاسِيَ ذَاكِرًا لِعُذْرٍ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ النِّسْيَانُ فَإِنَّهُ مِنْ الشَّرْعِ بِإِقَامَةِ الْمِلَّةِ مَقَامَ الذِّكْرِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، كَمَا أَقَامَ الْأَكْلَ نَاسِيًا مَقَامَ الْإِمْسَاكِ فِي الصَّوْمِ لِذَلِكَ، وَمَجَالُ الْكَلَامِ فِي الْآيَةِ وَاسِعٌ، وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ وَفِي الْأَنْوَارِ وَالتَّقْرِيرِ (وَالْإِجْمَاعُ وَهُوَ مَا بَيَّنَّاهُ) يُرِيدُ بِهِ مَا ذَكَرَهُ فِي التَّشْنِيعِ بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَهُ فِي حُرْمَةِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ نَاسِيًا إلَخْ (وَالسُّنَّةُ) وَهُوَ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ.
«فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَأَلَهُ عَدِيٌّ عَمَّا إذَا وَجَدَ مَعَ كَلْبِهِ كَلْبًا آخَرَ قَالَ لَا تَأْكُلْ فَإِنَّك إنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كَلْبِك وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْبِ غَيْرِك» عَلَّلَ الْحُرْمَةَ بِتَرْكِ التَّسْمِيَةِ وَالْمُسْلِمُ وَالْكِتَابِيُّ فِي تَرْكِ التَّسْمِيَةِ سَوَاءٌ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ إرْسَالِ الْبَازِي وَالْكَلْبِ وَعِنْدَ الرَّمْيِ لَكِنَّهَا فِي ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ تُشْتَرَطُ عِنْدَ الذَّبْحِ وَهِيَ عَلَى الْمَذْبُوحِ، وَفِي الصَّيْدِ تُشْتَرَطُ عِنْدَ الْإِرْسَالِ وَالرَّمْيِ وَهِيَ عَلَى الْآلَةِ لِأَنَّ الطَّاعَةَ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ، وَالْمَقْدُورُ لَهُ فِي الْأَوَّلِ الذَّبْحُ، وَفِي الثَّانِي الرَّمْيُ وَالْإِرْسَالُ، وَقَدْ فَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ تَفْرِيعَاتٍ وَهِيَ وَاضِحَةٌ. قَالَ (وَيُكْرَهُ أَنْ يَذْكُرَ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا غَيْرَهُ.
وَأَنْ يَقُولَ عِنْدَ الذَّبْحِ: اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ فُلَانٍ) وَهَذِهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: إحْدَاهَا أَنْ يَذْكُرَ مَوْصُولًا لَا مَعْطُوفًا فَيُكْرَهُ وَلَا تَحْرُمُ الذَّبِيحَةُ.
وَهُوَ الْمُرَادُ بِمَا قَالَ.
وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ: بِاسْمِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ.
لِأَنَّ الشَّرِكَةَ لَمْ تُوجَدْ فَلَمْ يَكُنْ الذَّبْحُ وَاقِعًا لَهُ.
إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِوُجُودِ الْقُرْآنِ صُورَةً فَيُتَصَوَّرُ بِصُورَةِ الْمُحَرَّمِ.
وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَذْكُرَ مَوْصُولًا عَلَى وَجْهِ الْعَطْفِ وَالشَّرِكَةِ بِأَنْ يَقُولَ: بِاسْمِ اللَّهِ وَاسْمِ فُلَانٍ، أَوْ يَقُولَ: بِاسْمِ اللَّهِ وَفُلَانٍ.
أَوْ بِاسْمِ اللَّهِ وَمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ بِكَسْرِ الدَّالِ فَتَحْرُمُ الذَّبِيحَةُ لِأَنَّهُ أَهَلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ.
وَالثَّالِثَةُ أَنْ يَقُولَ مَفْصُولًا عَنْهُ صُورَةً وَمَعْنًى بِأَنْ يَقُولَ قَبْلَ التَّسْمِيَةِ وَقَبْلَ أَنْ يُضْجِعَ الذَّبِيحَةَ أَوْ بَعْدَهُ، وَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ الذَّبْحِ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ هَذِهِ عَنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ مِمَّنْ شَهِدَ لَكَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَلِي بِالْبَلَاغِ» وَالشَّرْطُ هُوَ الذِّكْرُ الْخَالِصُ الْمُجَرَّدُ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَرِّدُوا التَّسْمِيَةَ حَتَّى لَوْ قَالَ عِنْدَ الذَّبْحِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي لَا يَحِلُّ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ وَسُؤَالٌ، وَلَوْ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ سُبْحَانَ اللَّهِ يُرِيدُ التَّسْمِيَةَ حَلَّ، وَلَوْ عَطَسَ عِنْدَ الذَّبْحِ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ لَا يَحِلُّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ.
لِأَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ الْحَمْدَ عَلَى نِعَمِهِ دُونَ التَّسْمِيَةِ.
وَمَا تَدَاوَلَتْهُ الْأَلْسُنُ عِنْدَ الذَّبْحِ وَهُوَ قَوْلُهُ بِاسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ مَنْقُولٌ عَنْ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ}
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَيُكْرَهُ أَنْ يَذْكُرَ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا غَيْرَهُ إلَخْ) الْمَسَائِلُ الْمَذْكُورَةُ ظَاهِرَةٌ وَقَوْلُهُ (وَمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ بِكَسْرِ الدَّالِ) يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ غَيْرَ مَكْسُورٍ لَا يَحْرُمُ، قِيلَ هَذَا إذَا كَانَ يَعْرِفُ النَّحْوَ.
وَقَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ: إنْ خَفَضَهُ لَا يَحِلُّ لِأَنَّهُ يَصِيرُ ذَابِحًا بِهِمَا، وَإِنْ رَفَعَهُ حَلَّ لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ، وَإِنْ نَصَبَهُ اخْتَلَفُوا فِيهِ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ عَلَى قِيَاسِ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ لَا يَرَى الْخَطَأَ فِي النَّحْوِ مُعْتَبَرًا فِي بَابِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا لَا يَحْرُمُ وَقَوْلُهُ (حَتَّى لَوْ قَالَ عِنْدَ الذَّبْحِ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَوْ قَدَّمَهُ أَوْ أَخَّرَهُ لَا بَأْسَ بِهِ (وَلَوْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ يُرِيدُ التَّسْمِيَةَ حَلَّ بِلَا خِلَافٍ) وَالْفَرْقُ لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ التَّكْبِيرِ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هَاهُنَا الذِّكْرُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ}: أَيْ قَائِمَاتٍ صَفَفْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَأَرْجُلَهُنَّ وَهُنَاكَ التَّكْبِيرُ، وَبِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ لَا يَكُونُ مُكَبِّرًا (وَلَوْ عَطَسَ عِنْدَ الذَّبْحِ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ لَا يَحِلُّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ) وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْخَطِيبِ وَإِذَا عَطَسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُنَاكَ ذِكْرُ اللَّهِ مُطْلَقًا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وَهَاهُنَا الذِّكْرُ عَلَى الذَّبْحِ قَالَ (وَالذَّبْحُ بَيْنَ الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لَا بَأْسَ بِالذَّبْحِ فِي الْحَلْقِ كُلِّهِ وَسَطِهِ وَأَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الذَّكَاةُ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ»، وَلِأَنَّهُ مَجْمَعُ الْمَجْرَى وَالْعُرُوقِ فَيَحْصُلُ بِالْفِعْلِ فِيهِ إنْهَارُ الدَّمِ عَلَى أَبْلَغِ الْوُجُوهِ فَكَانَ حُكْمُ الْكُلِّ سَوَاءً.
قَالَ (وَالْعُرُوقُ الَّتِي تُقْطَعُ فِي الذَّكَاةِ أَرْبَعَةٌ: الْحُلْقُومُ، وَالْمَرِيءُ، وَالْوَدَجَانِ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَفْرِ الْأَوْدَاجَ بِمَا شِئْت».
وَهِيَ اسْمُ جَمْعٍ وَأَقَلُّهُ الثَّلَاثُ فَيَتَنَاوَلُ الْمَرِيءَ وَالْوَدَجَيْنِ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي الِاكْتِفَاءِ بِالْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ قَطْعُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إلَّا بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ فَيَثْبُتُ قَطْعُ الْحُلْقُومِ بِاقْتِضَائِهِ، وَبِظَاهِرِ مَا ذَكَرْنَا يَحْتَجُّ مَالِكٌ وَلَا يُجَوِّزُ الْأَكْثَرَ مِنْهَا بَلْ يَشْتَرِطُ قَطْعَ جَمِيعِهَا (وَعِنْدَنَا إنْ قَطَعَهَا حَلَّ الْأَكْلُ، وَإِنْ قَطَعَ أَكْثَرَهَا فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَقَالَا: لابد مِنْ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ وَأَحَدِ الْوَدَجَيْنِ.
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَكَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ الِاخْتِلَافَ فِي مُخْتَصَرِهِ.
وَالْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَحْدَهُ.
وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: إنْ قَطَعَ نِصْفَ الْحُلْقُومِ وَنِصْفَ الْأَوْدَاجِ لَمْ يُؤْكَلْ.
وَإِنْ قَطَعَ أَكْثَرَ الْأَوْدَاجِ وَالْحُلْقُومَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ أُكِلَ.
وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا قَطَعَ الثَّلَاثَ: أَيَّ ثَلَاثٍ كَانَ يَحِلُّ، وَبِهِ كَانَ يَقُولُ أَبُو يُوسُفَ أَوَّلًا ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَا ذَكَرْنَا.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ أَكْثَرَ كُلِّ فَرْدٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، لِأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْهَا أَصْلٌ بِنَفْسِهِ لِانْفِصَالِهِ عَنْ غَيْرِهِ وَلِوُرُودِ الْأَمْرِ بِفَرْيِهِ فَيُعْتَبَرُ أَكْثَرُ كُلِّ فَرْدٍ مِنْهَا.
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قَطْعِ الْوَدَجَيْنِ إنْهَارُ الدَّمِ فَيَنُوبُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ، إذْ كُلُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَجْرَى الدَّمِ.
أَمَّا الْحُلْقُومُ فَيُخَالِفُ الْمَرِيءَ فَإِنَّهُ مَجْرَى الْعَلَفِ وَالْمَاءِ، وَالْمَرِيءُ مَجْرَى النَّفَسِ فَلَا بُدَّ مِنْ قَطْعِهِمَا.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَكْثَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَأَيَّ ثَلَاثٍ قَطَعَهَا فَقَدْ قَطَعَ الْأَكْثَرَ مِنْهَا وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِهَا هُوَ إنْهَارُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَالتَّوْحِيَةُ فِي إخْرَاجِ الرُّوحِ، لِأَنَّهُ لَا يَحْيَا بَعْدَ قَطْعِ مَجْرَى النَّفَسِ أَوْ الطَّعَامِ، وَيَخْرُجُ الدَّمُ بِقَطْعِ أَحَدِ الْوَدَجَيْنِ فَيُكْتَفَى بِهِ تَحَرُّزًا عَنْ زِيَادَةِ التَّعْذِيبِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَطَعَ النِّصْفَ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ بَاقٍ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ شَيْئًا احْتِيَاطًا لِجَانِبِ الْحُرْمَةِ.
الشَّرْحُ:
(وَالذَّبْحُ بَيْنَ الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لَا بَأْسَ بِالذَّبْحِ فِي الْحَلْقِ كُلِّهِ وَسَطَهُ وَأَعْلَاهُ وَأَسْفَلَهُ) وَأَتَى بِلَفْظِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِأَنَّ فِيهِ بَيَانًا لَيْسَ فِي رِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي رِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ الذَّبْحَ بَيْنَ الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا مَذْبَحٌ غَيْرُهُمَا، فَيُحْمَلُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الذَّكَاةُ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ» وَهُوَ يَقْتَضِي جَوَازَ الذَّبْحِ فَوْقَ الْحَلْقِ قَبْلَ الْعُقْدَةِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْعُقْدَةِ فَهُوَ بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ، وَهُوَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ لِلْإِمَامِ الرُّسْتُغْفَنِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي حِلِّ مَا بَقِيَ عُقْدَةُ الْحُلْقُومِ مِمَّا يَلِي الصَّدْرَ.
وَرِوَايَةُ الْمَبْسُوطِ أَيْضًا تُسَاعِدُهُ، وَلَكِنْ صَرَّحَ فِي ذَبَائِحِ الذَّخِيرَةِ أَنَّ الذَّبْحَ إذَا وَقَعَ أَعْلَى مِنْ الْحُلْقُومِ لَا يَحِلُّ، وَكَذَلِكَ فِي فَتَاوَى أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ لِأَنَّهُ ذَبَحَ فِي غَيْرِ الْمَذْبَحِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ كَمَا تَرَى، وَلِأَنَّ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ مَجْمَعُ الْعُرُوقِ وَالْمَجْرَى فَيَحْصُلُ بِالْفِعْلِ فِيهِ إنْهَارُ الدَّمِ عَلَى أَبْلَغِ الْوُجُوهِ، وَكَانَ حُكْمُ الْكُلِّ سَوَاءً، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْعُقْدَةِ.
قَالَ (وَالْعُرُوقُ الَّتِي تُقْطَعُ فِي الذَّكَاةِ إلَخْ) الْعُرُوقُ الَّتِي تُقْطَعُ فِي الذَّكَاةِ أَرْبَعَةٌ: الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ، وَالْوَدَجَانِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي اشْتِرَاطِ مَا يُقْطَعُ مِنْهَا لِلْحِلِّ؛ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى الِاكْتِفَاءِ بِالْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ: وَذَهَبَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى اشْتِرَاطِ قَطْعِ جَمِيعِهَا، وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى اشْتِرَاطِ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ وَأَحَدِ الْوَدَجَيْنِ رَجَعَ إلَيْهِ بَعْدَمَا كَانَ قَوْلُهُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ كَمَا نَذْكُرُهُ.
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَيْضًا.
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: الْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَحْدَهُ.
وَذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ أَكْثَرَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْهَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَدْ اكْتَفَى بِقَطْعِ الثَّلَاثِ أَيُّهَا كَانَتْ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، وَإِنْ قَطَعَ الْجَمِيعُ فَهُوَ أَوْلَى وَهُوَ وَجْهٌ رَابِعٌ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَفْرِ الْأَوْدَاجَ بِمَا شِئْت» وَالْفَرْيُ: الْقَطْعُ لِلْإِصْلَاحِ، وَالْإِفْرَاءُ: الْقَطْعُ لِلْإِفْسَادِ فَيَكُونُ كَسْرُ الْهَمْزَةِ أَنْسَبَ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ هَذَا لِوُرُودِ الْأَمْرِ بِفَرْيِهِ.
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّهُ جَمَعَ الْأَوْدَاجَ وَمَا ثَمَّةَ إلَّا الْوَدَجَانِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا مَا يَحْصُلُ بِهِ زُهُوقُ الرُّوحِ وَهُوَ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ، لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَعِيشُ بَعْدَ قَطْعِهِمَا، وَهُوَ ضَعِيفٌ لَفْظًا وَمَعْنًى.
أَمَّا لَفْظًا فَلِأَنَّ الْأَوْدَاجَ لَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَى الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ أَصْلًا.
وَأَمَّا مَعْنًى فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إسَالَةُ الدَّمِ النَّجِسِ، وَهُوَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِقَطْعِ مَجْرَاهُ، وَاحْتَجَّ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِظَاهِرِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ وَبِمَا يَقْتَضِيهِ، فَإِنَّ الْأَوْدَاجَ جَمْعٌ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثٌ فَيَتَنَاوَلُ الْمَرِيءَ وَالْوَدَجَيْنِ، وَقَطْعُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِدُونِ قَطْعِ الْحُلْقُومِ مُتَعَذِّرٌ فَثَبَتَ قَطْعُ الْحُلْقُومِ بِالِاقْتِضَاءِ، وَجَوَابُهُ سَيَجِيءُ.
وَاحْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قَطْعِ الْوَدَجَيْنِ إنْهَارُ الدَّمِ فَيَنُوبُ أَحَدُهُمَا مَنَابَ الْآخَرِ، إذَا كُلٌّ مِنْهُمَا مَجْرَى الدَّمِ، أَمَّا الْحُلْقُومُ فَيُخَالِفُ الْمَرِيءَ، فَإِنَّ الْمَرِيءَ مَجْرَى الْعَلَفِ وَالْمَاءِ وَالْحُلْقُومُ مَجْرَى النَّفَسِ.
وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْعَكْسِ، وَلَيْسَ يُجِيدُ فَلَا بُدَّ مِنْ قَطْعِهِمَا وَهُوَ قَرِيبٌ، وَجَوَابُهُ سَيَجِيءُ.
وَاحْتَجَّ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْهَا أَصْلٌ بِنَفْسِهِ لِانْفِصَالِهِ عَنْ غَيْرِهِ وَلِوُرُودِ الْأَمْرِ بِفَرْيِهِ، وَالْأَكْثَرُ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فَيُعْتَبَرُ أَكْثَرُ كُلٍّ مِنْ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ وَهُوَ أَقْرَبُ كَمَا تَرَى.
وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّ الْأَكْثَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَأَيُّ ثَلَاثٍ قَطَعَهَا فَقَدْ قَطَعَ الْأَكْثَرَ مِنْهَا وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِهَا وَهُوَ إنْهَارُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَالتَّوْحِيَةُ: أَيْ التَّعْجِيلُ فِي إخْرَاجِ الرُّوحِ، لِأَنَّهُ لَا يَحْيَا بَعْدَ قَطْعِ مَجْرَى النَّفَسِ أَوْ الطَّعَامِ.
وَبِهَذَا يَحْصُلُ جَوَابُ أَبِي يُوسُفَ، وَبِقَوْلِهِ (وَيَخْرُجُ الدَّمُ بِقَطْعِ أَحَدِ الْوَدَجَيْنِ فَيُكْتَفَى بِهِ تَحَرُّزًا عَنْ زِيَادَةِ التَّعْذِيبِ) جَوَابُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُقَالُ: الْأَوْدَاجُ جَمْعٌ دَخَلَ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَلَيْسَ ثَمَّةَ مَعْهُودٌ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْوَاحِدِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ} لِأَنَّ مَا تَحْتَهُ لَيْسَ أَفْرَادَهُ حَقِيقَةً وَالِانْصِرَافُ إلَى الْجِنْسِ فِيمَا يَكُونُ كَذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ مَا إذَا قَطَعَ النِّصْفَ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ بَاقٍ) قِيلَ: يَعْنِي أَكْثَرَ الْمُرَخَّصِ فِيهِ وَهُوَ الثَّلَاثَةُ، فَإِنَّ الِاثْنَيْنِ لَمَّا كَانَا بَاقِيَيْنِ كَانَ أَكْثَرُ الْمُرَخَّصِ بَاقِيًا فَلَا يَحِلُّ.
وَقِيلَ لَمَّا كَانَ جَانِبُ الْحُرْمَةِ مُرَجَّحًا كَانَ لِلنِّصْفِ الْبَاقِي حُكْمُ الْأَكْثَرِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ شَيْئًا وَرُبَّمَا لَوَّحَ إلَى هَذَا بِقَوْلِهِ احْتِيَاطًا لِجَانِبِ الْحُرْمَةِ. قَالَ (وَيَجُوزُ الذَّبْحُ بِالظُّفْرِ وَالسِّنِّ وَالْقَرْنِ إذَا كَانَ مَنْزُوعًا حَتَّى لَا يَكُونَ بِأَكْلِهِ بَأْسٌ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ هَذَا الذَّبْحُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمَذْبُوحُ مَيْتَةٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «كُلُّ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَأَفْرَى الْأَوْدَاجَ مَا خَلَا الظُّفْرُ وَالسِّنِّ فَإِنَّهُمَا مُدَى الْحَبَشَةِ» وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَلَا يَكُونُ ذَكَاةً كَمَا إذَا ذُبِحَ بِغَيْرِ الْمَنْزُوعِ، وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَنْهِرْ الدَّمَ بِمَا شِئْت» وَيُرْوَى «أَفْرِ الْأَوْدَاجَ بِمَا شِئْت» وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْمَنْزُوعِ فَإِنَّ الْحَبَشَةَ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ آلَةٌ جَارِحَةٌ فَيَحْصُلُ بِهِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ إخْرَاجُ الدَّمِ وَصَارَ كَالْحَجَرِ وَالْحَدِيدِ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَنْزُوعِ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ بِالثِّقْلِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْمُنْخَنِقَةِ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِعْمَالَ جُزْءِ الْآدَمِيِّ وَلِأَنَّ فِيهِ إعْسَارًا عَلَى الْحَيَوَانِ وَقَدْ أُمِرْنَا فِيهِ بِالْإِحْسَانِ.
قَالَ (وَيَجُوزُ الذَّبْحُ بِاللِّيطَةِ وَالْمَرْوَةِ وَكُلِّ شَيْءٍ أَنْهَرَ الدَّمَ إلَّا السِّنَّ الْقَائِمَ وَالظُّفْرَ الْقَائِمَ) فَإِنَّ الْمَذْبُوحَ بِهِمَا مَيْتَةٌ لِمَا بَيَّنَّا، وَنَصَّ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى أَنَّهَا مَيْتَةٌ لِأَنَّهُ وَجَدَ فِيهِ نَصًّا.
وَمَا لَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصًّا يَحْتَاطُ فِي ذَلِكَ، فَيَقُولُ فِي الْحِلِّ لَا بَأْسَ بِهِ وَفِي الْحُرْمَةِ يَقُولُ يُكْرَهُ أَوْ لَمْ يُؤْكَلْ.
قَالَ (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحِدَّ الذَّابِحُ شَفْرَتَهُ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» وَيُكْرَهُ أَنْ يُضْجِعَهَا ثُمَّ يُحِدَّ الشَّفْرَةَ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا أَضْجَعَ شَاةً وَهُوَ يُحِدُّ شَفْرَتَهُ فَقَالَ: لَقَدْ أَرَدْت أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَاتٍ، هَلَّا حَدَدْتهَا قَبْلَ أَنْ تُضْجِعَهَا» قَالَ (وَمَنْ بَلَغَ بِالسِّكِّينِ النُّخَاعَ أَوْ قَطَعَ الرَّأْسَ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ وَتُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: قَطَعَ مَكَانَ بَلَغَ.
وَالنُّخَاعُ عِرْقٌ أَبْيَضُ فِي عَظْمِ الرَّقَبَةِ، أَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُنْخَعَ الشَّاةُ إذَا ذُبِحَتْ» وَتَفْسِيرُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَنْ يَمُدَّ رَأْسَهُ حَتَّى يَظْهَرَ مَذْبَحُهُ، وَقِيلَ أَنْ يَكْسِرَ عُنُقَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْكُنَ مِنْ الِاضْطِرَابِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَفِي قَطْعِ الرَّأْسِ زِيَادَةَ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ بِلَا فَائِدَةٍ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا فِيهِ زِيَادَةَ إيلَامٍ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الذَّكَاةِ مَكْرُوهٌ.
وَيُكْرَهُ أَنْ يَجُرَّ مَا يُرِيدُ ذَبْحَهُ بِرِجْلِهِ إلَى الْمَذْبَحِ، وَأَنْ تُنْخَعَ الشَّاةُ قَبْلَ أَنْ تَبْرُدَ: يَعْنِي تَسْكُنَ مِنْ الِاضْطِرَابِ، وَبَعْدَهُ لَا أَلَمَ فَلَا يُكْرَهُ النَّخْعُ وَالسَّلْخُ، إلَّا أَنَّ الْكَرَاهَةَ لِمَعْنًى زَائِدٍ وَهُوَ زِيَادَةُ الْأَلَمِ قَبْلَ الذَّبْحِ أَوْ بَعْدَهُ فَلَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ فَلِهَذَا قَالَ: تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ.
قَالَ (فَإِنْ ذَبَحَ الشَّاةَ مِنْ قَفَاهَا فَبَقِيَتْ حَيَّةً حَتَّى قَطَعَ الْعُرُوقَ حَلَّ) لِتَحَقُّقِ الْمَوْتِ بِمَا هُوَ ذَكَاةٌ، وَيُكْرَهُ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ الْأَلَمِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَصَارَ كَمَا إذَا جَرَحَهَا ثُمَّ قَطَعَ الْأَوْدَاجَ (وَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَ قَطْعِ الْعُرُوقِ لَمْ تُؤْكَلْ) لِوُجُودِ الْمَوْتِ بِمَا لَيْسَ بِذَكَاةٍ فِيهَا.
قَالَ (وَمَا اسْتَأْنَسَ مِنْ الصَّيْدِ فَذَكَاتُهُ الذَّبْحُ، وَمَا تَوَحَّشَ مِنْ النَّعَمِ فَذَكَاتُهُ الْعَقْرُ وَالْجُرْحُ) لِأَنَّ ذَكَاةَ الِاضْطِرَارِ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ عَلَى مَا مَرَّ، وَالْعَجْزُ مُتَحَقِّقٌ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ (وَكَذَا مَا تَرَدَّى مِنْ النَّعَمِ فِي بِئْرٍ وَوَقَعَ الْعَجْزُ عَنْ ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ) لِمَا بَيَّنَّا.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَحِلُّ بِذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ.
وَنَحْنُ نَقُولُ: الْمُعْتَبَرُ حَقِيقَةُ الْعَجْزِ وَقَدْ تَحَقَّقَ فَيُصَارُ إلَى الْبَدَلِ، كَيْفَ وَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ النُّدْرَةَ بَلْ هُوَ غَالِبٌ.
وَفِي الْكِتَابِ أَطْلَقَ فِيمَا تَوَحَّشَ مِنْ النَّعَمِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الشَّاةَ إذَا نَدَّتْ فِي الصَّحْرَاءِ فَذَكَاتُهَا الْعَقْرُ، وَإِنْ نَدَّتْ فِي الْمِصْرِ لَا تَحِلُّ بِالْعَقْرِ لِأَنَّهَا لَا تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهَا فَيُمْكِنُ أَخْذُهَا فِي الْمِصْرُ فَلَا عَجْزَ، وَالْمِصْرُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ فِي الْبَقَرِ وَالْبَعِيرِ لِأَنَّهُمَا يَدْفَعَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا فَلَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِمَا، وَإِنْ نَدَّا فِي الْمِصْرِ فَيَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ، وَالصِّيَالُ كَالنَّدِّ إذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ، حَتَّى لَوْ قَتَلَهُ الْمَصُولُ عَلَيْهِ وَهُوَ يُرِيدُ الذَّكَاةَ حَلَّ أَكْلُهُ.
قَالَ (وَالْمُسْتَحَبُّ فِي الْإِبِلِ النَّحْرُ، فَإِنْ ذَبَحَهَا جَازَ وَيُكْرَهُ.
وَالْمُسْتَحَبُّ فِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ الذَّبْحُ فَإِنْ نَحَرَهُمَا جَازَ وَيُكْرَهُ) أَمَّا الِاسْتِحْبَابُ فَلِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ الْمُتَوَارَثَةِ وَلِاجْتِمَاعِ الْعُرُوقِ فِيهَا فِي الْمَنْحَرِ وَفِيهِمَا فِي الْمَذْبَحِ، وَالْكَرَاهَةُ لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَهِيَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ فَلَا تَمْنَعُ الْجَوَازَ وَالْحِلَّ خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ مَالِكٌ إنَّهُ لَا يَحِلُّ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَيَجُوزُ الذَّبْحُ بِالظُّفْرِ وَالْقَرْنِ وَالسِّنِّ إلَخْ) الذَّبْحُ بِالظُّفْرِ وَالْقَرْنِ وَالسِّنِّ الْمَنْزُوعَةِ جَائِزٌ مَكْرُوهٌ، وَأَكْلُ الذَّبِيحِ بِهَا لَا بَأْسَ بِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ مَيْتَةٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كُلُّ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَأَفْرَى الْأَوْدَاجَ مَا خَلَا الظُّفْرَ وَالسِّنَّ فَإِنَّهُمَا مُدَى الْحَبَشَةِ» اسْتَثْنَاهُمَا بِالْإِطْلَاقِ عَمَّا يَجُوزُ أَكْلُهُ فَيَتَنَاوَلُ الْحُرْمَةَ بِالْمَنْزُوعِ وَالْقَائِمِ، وَلِأَنَّ الذَّكَاةَ فِعْلٌ مَشْرُوعٌ، وَإِنْهَارُ الدَّمِ بِهَا مُطْلَقًا غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَلَا يَكُونُ ذَكَاةً كَغَيْرِ الْمَنْزُوعِ، وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَنْهِرْ الدَّمَ بِمَا شِئْت» وَيُرْوَى «أَفْرِ الْأَوْدَاجَ بِمَا شِئْت» وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ يَقْتَضِي الْجَوَازَ بِالْمَنْزُوعِ وَغَيْرِهِ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا غَيْرَ الْمَنْزُوعِ بِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فَإِنَّ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «فَإِنَّهَا مُدَى الْحَبَشَةِ» فَإِنَّهُمْ لَا يُقَلِّمُونَ الْأَظْفَارَ وَيُحَدِّدُونَ الْأَسْنَانَ وَيُقَاتِلُونَ بِالْخَدْشِ وَالْعَضِّ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْمَنْزُوعِ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ آلَةٌ جَارِحَةٌ) جَوَابٌ عَنْ دَلِيلِهِ الْمَعْقُولِ.
وَتَقْرِيرُهُ: إنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ إنْهَارَ الدَّمِ بِالظُّفْرِ وَالسِّنِّ الْمَنْزُوعَيْنِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، فَإِنَّهُ أَيْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا آلَةٌ جَارِحَةٌ يَحْصُلُ بِهَا الْمَقْصُودُ وَهُوَ إخْرَاجُ الدَّمِ فَصَارَ كَاللِّيطَةِ وَالْحَجَرِ وَالْحَدِيدِ وَالسِّكِّينِ الْكَلِيلِ، وَبَاقِي كَلَامِهِ ظَاهِرٌ سِوَى أَلْفَاظٍ نُفَسِّرُهَا: اللِّيطَةُ بِكَسْرِ اللَّامِ: قِشْرُ الْقَصَبِ، وَالْمَرْوَةُ: الْحَجَرُ الْحَادُّ وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ يَقْتُلُ بِالثِّقَلِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْمُنْخَنِقَةِ، وَقَوْلُهُ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَقَدْ أَرَدْت أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَاتٍ») قِيلَ إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا عُلِمَ الْمَقْصُودُ بِالذَّبْحِ أَنَّ التَّحْدِيدَ لِذَبْحِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَذْبُوحَ لَا عَقْلَ لَهُ، وَهُوَ مَعَ كَوْنِهِ سُوءَ أَدَبٍ سَاقِطٌ لِأَنَّ الْوَهْمَ فِي ذَلِكَ كَافٍ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِيهِ وَالْعَقْلُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِمَعْرِفَةِ الْكُلِّيَّاتِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ مِنْهَا.
وَالنُّخَاعُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَالضَّمِّ لُغَةٌ فِيهِ، فَسَّرَهُ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّهُ عِرْقٌ أَبْيَضُ فِي عَظْمِ الرَّقَبَةِ، وَنَسَبَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ إلَى السَّهْوِ.
وَقَالَ: وَهُوَ خَيْطٌ أَبْيَضُ فِي جَوْفِ عَظْمِ الرَّقَبَةِ مُمْتَدٌّ إلَى الصُّلْبِ، وَرُدَّ بِأَنَّ بَدَنَ الْحَيَوَانِ مُرَكَّبٌ مِنْ عِظَامٍ وَأَعْصَابٍ وَعُرُوقٍ هِيَ شَرَايِينُ وَأَوْتَارٌ، وَمَا ثَمَّةَ شَيْءٌ يُسَمَّى بِالْخَيْطِ أَصْلًا.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَصْلَ الْجَامِعَ فِي إفَادَةِ مَعْنَى الْكَرَاهَةِ وَهُوَ كُلُّ مَا فِيهِ زِيَادَةُ أَلَمٍ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الذَّكَاةِ.
قَالَ (وَمَا اسْتَأْنَسَ مِنْ الصَّيْدِ) قَدْ مَرَّ أَنَّ الذَّبْحَ الِاضْطِرَارِيَّ بَدَلٌ عَنْ الِاخْتِيَارِيِّ فَلَا مَصِيرَ إلَى الْأَوَّلِ قَبْلَ الْعَجْزِ عَنْ الثَّانِي، وَهَذَا مَخْرَجُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ ذَكَاةَ الِاضْطِرَارِ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ (وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَحِلُّ الْأَكْلُ بِذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ فِي الْوَجْهَيْنِ) يَعْنِي مَا تَوَحَّشَ وَمَا تَرَدَّى، لِأَنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ النُّدْرَةَ، وَلَئِنْ كَانَتْ فَالْمُعْتَبَرَةُ حَقِيقَةُ الْعَجْزِ وَقَدْ تَحَقَّقَ وَقَوْلُهُ (وَفِي الْكِتَابِ) يُرِيدُ بِهِ الْقُدُورِيَّ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَالنَّحْرُ: قَطْعُ الْعُرُوقِ عِنْدَ الصَّدْرِ، وَالذَّبْحُ: قَطْعُهَا تَحْتَ اللَّحْيَيْنِ، وَالْمُسْتَحَبُّ فِي الْإِبِلِ الْأَوَّلُ وَفِي غَيْرِهِ الثَّانِي، وَالْعَكْسُ يَجُوزُ.
وَيُكْرَهُ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَقَوْلُهُ (لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ) أَيْ فِي غَيْرِ الذَّبْحِ وَهُوَ تَرْكُ السُّنَّةِ قَالَ (وَمَنْ نَحَرَ نَاقَةً أَوْ ذَبَحَ بَقَرَةً فَوَجَدَ فِي بَطْنِهَا جَنِينًا مَيِّتًا لَمْ يُؤْكَلْ أَشْعَرَ أَوْ لَمْ يُشْعِرْ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إذَا تَمَّ خَلْقُهُ أُكِلَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ» وَلِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْأُمِّ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِهَا حَتَّى يُفْصَلَ بِالْمِقْرَاضِ وَيَتَغَذَّى بِغِذَائِهَا وَيَتَنَفَّسُ بِتَنَفُّسِهَا، وَكَذَا حُكْمًا حَتَّى يَدْخُلَ فِي الْبَيْعِ الْوَارِدِ عَلَى الْأُمِّ وَيُعْتَقَ بِإِعْتَاقِهَا.
وَإِذَا كَانَ جُزْءًا مِنْهَا فَالْجُرْحُ فِي الْأُمِّ ذَكَاةٌ لَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ ذَكَاتِهِ كَمَا فِي الصَّيْدِ.
وَلَهُ أَنَّهُ أَصْلٌ فِي الْحَيَاةِ حَتَّى تُتَصَوَّرَ حَيَاتُهُ بَعْدَ مَوْتِهَا وَعِنْدَ ذَلِكَ يُفْرَدُ بِالذَّكَاةِ، وَلِهَذَا يُفْرَدُ بِإِيجَابِ الْغُرَّةِ وَيُعْتَقُ بِإِعْتَاقٍ مُضَافٍ إلَيْهِ، وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ وَبِهِ، وَهُوَ حَيَوَانٌ دَمَوِيٌّ، وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الذَّكَاةِ وَهُوَ الْمَيْزُ بَيْنَ الدَّمِ وَاللَّحْمِ لَا يَتَحَصَّلُ بِجُرْحِ الْأُمِّ، إذْ هُوَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِخُرُوجِ الدَّمِ عَنْهُ فَلَا يُجْعَلُ تَبَعًا فِي حَقِّهِ، بِخِلَافِ الْجُرْحِ فِي الصَّيْدِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِخُرُوجِهِ نَاقِصًا فَيُقَامُ مَقَامَ الْكَامِلِ فِيهِ عِنْدَ التَّعَذُّرِ.
وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ تَحَرِّيًا لِجَوَازِهِ كَيْ لَا يَفْسُدَ بِاسْتِثْنَائِهِ، وَيُعْتَقُ بِإِعْتَاقِهَا كَيْ لَا يَنْفَصِلَ مِنْ الْحُرَّةِ وَلَدَ رَقِيقٍ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (أَشْعَرَ) مَعْنَاهُ نَبَتَ شَعْرُهُ مِثْلُ أَعْشَبَ الْمَكَانُ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ خَلَا أَنَّهُ لَمْ يُجِبْ عَنْ الْحَدِيثِ الَّذِي اسْتَدَلَّا بِهِ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّهُ رُوِيَ «ذَكَاةُ أُمِّهِ» بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، فَإِنْ كَانَ مَنْصُوبًا فَلَا إشْكَالَ أَنَّهُ تَشْبِيهٌ، وَإِنْ كَانَ مَرْفُوعًا فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَقْوَى فِي التَّشْبِيهِ مِنْ الْأَوَّلِ، عُرِفَ ذَلِكَ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ.
قِيلَ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَقْدِيمُ ذَكَاةِ الْجَنِينِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَعَيْنَاك عَيْنَاهَا وَجِيدُك جِيدُهَا سِوَى أَنَّ عَظْمَ السَّاقِ مِنْك دَقِيقُ.